فصل: الفصل السادس في قصة الخليل عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


فصل ‏[‏في الجدوب وعموم الموت‏]‏

أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة فكانت الريح تسفي تراباً كالرماد، فسمي عام الرمادة، وجعلت الوحوش تأوي إلى الأنس، فآلى عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيى الناس واستسقى بالعباس فسقوا، وفيها كان طاعون عمواس، مات فيه أبو عبيدة، ومعاذ، وأنس‏.‏

وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها‏.‏

وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعون سبعون ألفاً، وفي الثاني نيف وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث خمد الناس‏.‏

وفي سنة تسع عشرة وثلاث مائة كثر الموت، وكان يدفن في القبر الواحد جماعة‏.‏

وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذبح الأطفال، وأكلت الجيف، وبيع العقار برغيفان، واشتري لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة عمت الأمراض البلاد، فكان يموت أهل الدار كلهم‏.‏

وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أصاب أهل البصرة حر، فكانوا يتساقطون موتى في الطرقات‏.‏

وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عم القحط، فأكلت الميتة، وبلغ المكوك من بزر البقلة سبع دنانير، والسفرجلة والرمانة ديناراً، والخيارة واللينوفرة ديناراً، وورد الخبر من مصر بأن ثلاثة من اللصوص نقبوا داراً فوجدوا عند الصباح موتى، أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة‏.‏

وفي السنة التي تليها وقع وباء، فكان تحفر زبية لعشرين وثلاثين فيلقون فيها، وتاب الناس كلهم وأراقوا الخمور، ولزموا المساجد‏.‏

وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وقع الوباء، وبلغ الرطل من التمر الهندي أربعة دنانير‏.‏

وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجوع والوباء بمصر، حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وبيع اللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، وخرج وزير صاحب مصر إليه فنزل عن بغلته، فأخذها ثلاثة فأكلوها، فصلبوا، فأصبح الناس لا يرون إلا عظامهم تحت خشبهم وقد أكلوا‏.‏

وفي سنة أربع وستين وأربعمائة وقع الموت في الدواب حتى إن راعياً قام إلى الغنم وقت الصباح ليسوقها فوجدها كلها موتى‏.‏

فصل في الزلازل والآيات

زلزلت الأرض على عهد عمر في سنة عشرين، ودامت الزلازل في سنة أربع وتسعين‏:‏ أربعين يوماً، وقعت الأبنية الشاهقة، وتهدمت أنطاكية‏.‏

وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفاً‏.‏

وفي السنة التي تليها رجفت الأهواز، وتصدعت الجبال، وهرب أهل البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يوماً‏.‏

وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطراً وبرداً كالبيض، فقتل بها ثلاثمائة وسبعين إنساناً، وسمع في ذلك صوت يقول‏:‏ ارحم عبادك، اعف عن عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع، وعرضها شبر، ومن الخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست، فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتاً ولا يرون شخصاً‏.‏

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين رجفت دمشق رجفة حتى انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها، فمات خلق كثير، وانكفأت قرية في الغوطة على أهلها، فلم ينج منهم إلا رجل واحد، وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفاً‏.‏

وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفاً وخمسين يوماً، وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز، ثم ذهبت إلى همدان، فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل، فمنعت الناس من السعي، فتعطلت الأسواق، وزلزلت هراة فوقعت الدور‏.‏

وفي سنة ثمان وثلاثين وجه طاهر بن عبد الله إلى المتوكل حجراً سقط بناحية طبرستان، وزنه ثمانمائة وأربعون درهماً، أبيض، فيه صدع، وذكروا أنه سمع لسقوطه هدة أربع فراسخ في مثلها، وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع‏.‏

وفي سنة أربعين ومائتين خرجت ريح من بلاد الترك، فمرت بمرو فقتلت خلقاً كثيراً بالزكام، ثم صارت إلى نيسابور، وإلى الري، ثم إلى همذان وحلوان، ثم إلى العراق، فأصاب أهل بغداد وسر من رأى حمى وسعال وزكام، وجاءت كتب من المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى القيروان خسف بها، فلم ينج من أهلها إلا اثنان وأربعون رجلاً سود الوجوه فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا أنتم مسخوط عليكم فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوها‏.‏

وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء، وجعلت تتطاير شرقاً وغرباً كالجراد، من قبل غروب الشمس إلى الفجر، ولم يكن مثل هذا إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي السنة التي تليها رجمت قرية يقال لها السويدا ناحية مصر بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال، وزلزلت الري وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصبهان وقم وقاشان كلها في وقت واحد، وزلزلت الدامغان فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفاً، وتقطعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية، فهلك من أهلها، وسار جبل باليمن، عليه مزارع، حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب على دلبة بحلب، لسبع مضين من رمضان فصاح‏:‏ يا معشر الناس، اتقوا الله، الله، الله، حتى صاح أربعين صوتاً ثم طار، وجاء من الغد فصاح أربعين صوتاً ثم طار، فكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض كور الأهواز فسقط طائر أبيض على جنازته، فصاح بالفارسية والخورية‏:‏ إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده‏.‏

وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت أنطاكية، فسقط منها ألف وخمسمائة دار، ووقع من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمع أهلها أصواتاً هائلة، من كوى المنازل، وسمع أهل تنيس صيحة هائلة، دامت فمات منها خلق كثير، وذهبت جيلة بأهلها‏.‏

وفي سنة خمسين وثلاثين ومائتين مطرت قرية حجارة بيضاء وسوداء‏.‏

وفي سنة ثمان وثمانين زلزلت دنبل في الليل، فأصبحوا، ولم يبق من المدينة إلا اليسير، فأخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت‏.‏

وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة عدل الحاج عن الجادة خوفاً من العرب، فرأوا في البرية، صور الناس من حجارة، ورأوا امرأة قائمة على تنور وهي من حجارة، والخبز الذي في التنور من حجارة‏.‏

وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة هبت ريح بفم الصلح، شبت بالتنين، خرقت دجلة، حتى ذكر أنها باتت أرضها، وهلكت خلقاً كثيراً، واحتملت زورقاً منحدراً، وفيه دواب، فطرحته في أرض جوخى‏.‏

وفي سنة عشرين وأربعمائة جاء برد هائل، ووقعت بردة، حزرت بمائة وخمسين رطلاً، فكانت كالثور النائم‏.‏

وفي سنة أربع وثلاثين زلزلت تبريز، فهدم سورها وقلعتها، وهلك تحت الهدم خمسون ألفاً‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة كانت بأذربيجان زلازل، انقطعت منها الحيطان، فحكى من يعتمد على قوله، إنه كان قاعداً في إيوان، فانفرج حتى رأى السماء من وسطه ثم عاد‏.‏

وفي سنة ستين وأربعمائة كانت زلزلة بفلسطين هلك فيها خمسة عشر ألفاً، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغاب الحر مسيرة يوم، فساخ في الأرض، فدخل الناس يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك خلقاً كثيراً منهم‏.‏

وفي سنة اثنتين وستين خسف بأيلة‏.‏

وفي سنة ست وخمسمائة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة في أقطار بغداد في الجانبين، قال شيخنا أبو بكر ابن عبد الباقي أنا سمعتها، فظننت حائطاً قد وقع، ولم يعلم ما ذاك، ولم يكن في السماء غيم فيقال رعد‏.‏

وفي سنة سبع وقعت زلزلة بناحية الشام، فوقع من سور الرها ثلاثة عشر برجاً، وخسف بسميساط وقلب بنصف القلعة‏.‏

وفي سنة إحدى عشرة زلزلت الأرض ببغداد يوم عرفة، فكانت الحيطان تمر وتجيء‏.‏

وفي سنة خمس عشرة وقع الثلج ببغداد، فامتلأت منه الشوارع والدروب، ولم يسمع قبله بمثله‏.‏

وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة بجنزة أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفاً فأهلكتهم، وكانت في مقدار عشرة فراسخ في مثلها‏.‏

وفي السنة التي تليها خسف بجنزة وصار مكان البلد ماء أسود، وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهليهم، وزلزلت حلوان فتقطع الجبل، وهلك خلق كثير‏.‏

وفي سنة اثنين وخمسين وخمسمائة كانت زلازل بالشام في ثلاثة عشر بلداً من بلاد الإسلام، فمنها ما هلك كله، ومنها ما هلك بعضه‏.‏

الباب الخامس في ذكر المواعظ

وهذا الباب ينقسم إلى قسمين‏:‏ القسم الأول يختص بذكر القصص، والقسم الثاني فيه المواعظ والإشارات مطلقاً‏.‏

القسم الأول في القصص

وهو المختص بذكر القصص، وفيه ست وعشرون قصة

الفصل الأول في قصة آدم عليه السلام

اعلموا أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام آخر الخلق، لأنه مهد الدار قبل الساكن، وأقام عذره قبل الزلل، بقوله في ‏"‏الأرض‏"‏ فظنت الملائكة أن تفضيله بنفسه، فضنت بالفضل عليه، فقالوا ‏"‏أتجعل فيها‏"‏ فقوبلوا بلفظ ‏"‏إني أعلم‏"‏ فلما صوره، ألفاه كاللقا، فلما عاين إبليس تلك الصورة، بات من الهم في سورة، فلما نفخ فيه الروح، بات الحاسد ينوح، ثم نودي في نادي الملائكة ‏"‏اسجدوا لآدم‏"‏ فتطهروا من غدير ‏"‏لا علم لنا‏"‏ وغودر الغادر بخساً بكبرياء ‏"‏أنا خير‏"‏ ثم حام العدو حول حمى المحمي، فلولا سابق القدر، ما قدر عليه، فلما نزل إلى الأرض، خدخد الفرح، بدمع الترح، حتى أقلق الوجود فجاء جبريل، فقال‏:‏ ما هذا الجهد‏؟‏ فصاح لسان الوجد‏:‏ للخفاجي‏:‏

ما رحلت العيش عن أرضكم*** فرأت عيناي شيئاً حسـنـا

هل لنا نحوكم مـن عـودة*** ومن التعليل قولي هل لنـا

يا آدم لا تجزع من كأس خطإ كان سبب كيسك، فلقد استخرج منك داء العجب، وألبسك رداء النسك، لو لم تذنبوا‏:‏ للمتنبي‏:‏

لعل عتبك محمود عواقـبـه*** فربما صحت الأجسام بالعلل

لا تحزن لقولي لك ‏"‏اهبط منها‏"‏ فلك خاتمتها، ولكن اخرج منها إلى مزرعة المجاهدة، وسق من دمعك، ساقية لشجرة ندمك، فإذا عاد العود أخضر، فعد‏:‏ للبحتري‏:‏

إن جرى بيننا وبينك عتـب*** أو تنأت منا ومنك الـديارُ

فالغليل الذي عهدت مقـيم*** والدموعُ التي شهدت غزارُ

 ما زالت زلة الآكلة تعاده، حتى استولى داؤه على أولاده، فنمت هينمة الملائكة، بعبارة نظر العاقبة، فنشروا مطوى ‏"‏أتجعل‏"‏ قرعوا بعصي الدعاوي، ظهور العصاة، فقيل لهم‏:‏ لو كنتم بين أفاعي الهوى وعقارب اللذات لبات سليمكم سليماً، فأبوا للجرآة إلا جرجرير الدعاوي، وحدثوا أنفسهم بالتقى بالتقاوي، فقيل‏:‏ نقبوا عن خيار نقبائكم، وانتقوا ملك الملكوت، فما رأوا فيما رأوه لمثلها مثل هاروت وماروت، فأبى لسفر البلاء بالبلية، فما نزلا حتى نزلا من مقام العصمة، فنزلا منزل الدعوى، فركبا مركب البشرية، فمرت على المرئيين امرأة يقال لها الزهرة، بيدها مزهر زهرة الشهوة، فغنت الغانية بغنة اغن، فرأت قيان الهوى، فهوى الصوت في صوت قلب قلبيهما، فقلبهما عن تقوى التقويم، فانهار بناء عزم هاروت، وما رهم حزم ماروت، فأراداها على الردى فراوداها، وما قتل الهوى نفساً فوداها، فبسطت نطع التنطع على تحت التخيير، إما أن تشركا وإما أن تقتلا، وإما أن تشربا، فظنا سهولة الأمر في الخمر، وما فطنا، فلما امتد ساعد الخلاف فسقى فسقاً، فدخلا سكك السكر، فزلا في مزالق الزنا، فرآهما مع الشخصية شخص، فشخصا إليه فقتلا، فكشت فتنتهما في فئة الملائكة، فاتخذوا لتلك الواردة، ورداً من تضرع ‏"‏ويستغفرون لمن في الأرض‏"‏‏.‏

الفصل الثاني في بناء الكعبة

لما علا كعب الكعبة على سائر البقاع بقاع العلم، أبرزتها كف الإيجاد كالكاعب، قبل وجود الأرض، وكان آدم أول من ساس الأساس، ثم بيّت للبيت البيات، طواف الطوفان، فحل ما حل أزرار حلل الحلل، فلما هاجر الخليل بهاجر وابنها، أوضع بهما فوضعهما هنالك، وتولى راضياً بمن تولاه، يوم حرقوه، فقالت هاجر‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فرجعت متوكئة على منسأة التوكل على من لا ينسى، فجعلت تشرب ما معها من ماء، وترضع لبنها ابنها، فلما نفدا جعل إسماعيل يتلوى على رمض رمضان الصوم، فانطلقت لتبذل الجهود في مأمور ‏"‏فامشوا في مناكبها‏"‏ فصعدت بأقدام الصفا على الصفا، فلما أطلت الطلة على الطلل، توكفت طل روح ينقع الغلة، ثم جدت فجدت الجدد بالجد هابطة، فلما طرف طرف سيرها طرف طرف الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم وسعت خطاها وسعت للجهد بجهد ذراعها، ثم أتت المرأة المروة، وعادت إلى الصفا سبعا، فلذلك أمر المكلف أن يسعى، لأنه أثر قدم مقدام، لتصيب الأقدام، نصيباً من مواطي ‏"‏فبهداهم اقتده‏"‏ فسمعت صوتاً من صوب، فنزل الملك ليزيل النازلة، فهيا نزل النزيه، فزمزم ماء زمزم، ونزا نزواً لانز نزاً، فحصحص الماء في صحصح الحصى، فامتدت كف الحرص، فلفقت كالحوض، فقيل لها ليس هذا الماء من كيس كسبك فما هذا المذاق من حرص فعلك، ولو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً، فمرت رفقة من جُرهم، جرَّهم سؤال ‏"‏فاجعل أفئدة من الناس‏"‏ فأقاموا‏.‏

واشتاق الخليل إلى ابنه، فاستاق راحلة الرحيل، فاشترط لسان غيرة سارة، أن لا تزال عن مكانة ‏"‏وإبراهيم الذي وفَّى‏"‏ فقدمت زوجة إسماعيل إليه المقام فقدت فيه قدمه وغابت رجل الرجل فحولته إلى يساره، فسرت إليه اليسرى، فهيت دليل الإرشاد بالقاصدين ‏"‏واتخِذوا من مقام إبراهيم مُصلَّى‏"‏ فلما أمرا ببناء البيت حار من لا يعلم مراد الآمر، فإذا سحابة تسحب ذيل الدليل، قد قدَّها المهندس القدري على قدر البيت، فوقفت فنادت يا إبراهيم‏:‏ علِّم على ظلي، فلما علَّم كما علِم، هبت فذهبت فسُرَّ بما فُسِّر له من مشكل الشكل، فذلك سرُّ ‏"‏وإذا بوَّأْنا‏"‏ فجعلا مكان استراحة البناء المعنى ‏"‏ربنا تقبَّل منا‏"‏ فلما فرغا، فغرا فم السؤال، يرتشفان ضرع الضراعة ‏"‏وأرنا مناسكنا‏"‏ فلما شرفت الكعبة بإضافة ‏"‏وطهِّرا بيتي‏"‏ قصدها فوج الفيل، فقيل مرادهم، لما باتوا على ما بيتوا، أقبل الطير الذي رمى كالغمام، فكانت قطراته للحصاد، لا للبذر، فأصبح لزرع الأجساد كالمنجل الهاشم، ليكون معجزاً لظهور نبي بني هاشم، فأمسوا في بيدر الدِّيّاس ‏"‏كعصفٍ مأكول‏"‏‏.‏

لفصل الثالث في قصة نوح عليه السلام

لما عم أهل الأرض العمى عما خلقوا له، بعث نوح بجلاء أبصار البصائر، فمكث يداويهم ‏"‏ألف سنة إلا خمسين عاماً‏"‏ فكلهم أبصر ولكن عن المحجة تعالى، فلاح لللاحي عدم فلاحهم، فولاهم الصلا يأساً من صلاحهم‏.‏ وبعث شكاية الأذى، في مسطور ‏"‏إنهم عصوني‏"‏ فأذن مؤذن الطرد، على باب دار إهدار دمائهم ‏"‏إنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن‏"‏ فقام نوح في محراب ‏"‏لا تذر‏"‏ فأتته رسالة ‏"‏أن اصنع‏"‏ ونادى بريد الإعلام بالغضب ‏"‏ولا تخاطبني‏"‏ فلما أن هال كئيب الإمهال، وانقطع سلك التأخير‏.‏ غربت شمس الانتظار، فادلهمت عقاب العقاب فلما انسدلت الظلمة، وفات النور ‏"‏فار التنور‏"‏ فقيل يا نوح‏:‏ قد حان حين الحين، فاحمل ‏"‏فيها من كل زوجين اثنين‏"‏، فتخلف خلف نوح خلف من ولده، فمد يد الحنو ليأخذ بيده ‏"‏يا بني اركب معنا‏"‏ فأجاب عن ضمير خايض في مساء المساوي ‏"‏سآوي‏"‏ فرد عليه لسان الوعيد ‏"‏لا عاصم‏"‏ فلما انتقم من العصاة بما يكفي، كفت كف النجاة كفة الأرض بقسر ‏"‏ابلعي‏"‏ وقلع جذع جزع السماء في وكف دمعها بظفر ‏"‏أقلعي‏"‏ ونوديت نجاة الجودي جودي، بإنجاء غرقى السير، وزود الهالكون في سفر الطرد زاد ‏"‏وقيل بُعداً‏"‏‏.‏

لفصل الرابع في قصة عاد

لما تجبر قوم عاد في ظل ظلل ضلالهم حين أملى الأمل، وطول البقاء وزوى ذكر زوالهم، ومروا في مشارع عذاب الملاهي، ناسين من عذابها، رافلين في حلل الغفلة بالأمنية عن المنية وآدابها، أقبل هود يهديهم، ويناديهم في ناديهم ‏"‏اعبدوا الله‏"‏ فبرزوا في عتو ‏"‏من أشدُّ منّا قوة‏"‏ فسحب سحاب العذاب، ذيل الأدبار، بإقباله إلى قبالتهم، فظنوه لما اعترض عارض مطر، فتهادوا تباشير البشارة، بتهادي بشارة ‏"‏هذا عارض ممطرنا‏"‏ فصاح بلبل البلبال فبلبل ‏"‏بل هو ما استعجلتم به‏"‏ فكان كلما دنا وترامى، ترى ما كان ‏"‏كأن لم يكن‏"‏ فحنظلت شجرات مشاجرتهم هوداً، فجنى من جنى، من جنا ما جنى في مغنى ‏"‏فما أغنى عنهم سمعهم‏"‏ فراحت ريح الدبور، لكي تسم الأدبار بكي الإدبار، فعجوا منها عجيج الأدبر، فلم تزل تكوي تكوينهم، بميسم العدم، وتلوي تلوينهم إلى حياض دم الندم، وتكفأ عليهم الرمال، فتكفي تكفينهم، وتبرزهم إلى البراز، عن صون حصون، كن يقيناً يقينهم فإذا أصبحت أخذت تنزع في قوس ‏"‏تنزع الناس‏"‏ وإذا أمست، أوقعت عريضهم في عرض ‏"‏كأنهم أعجاز نخل‏"‏ فما برحت بارحهم عن براحهم، حتى برّحت بهم، ولا أقلعت حتى قلعت قلوع قلاعهم، فدامت عليهم أفة وداء، لا تقبل فداء ‏"‏سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏"‏ فحسوا ما آذاقهم من سوء ما حسوا ما، ونسفوا في قفر ‏"‏ألا بعداً‏"‏ إلى يم ‏"‏واتبعوا‏"‏ فلو عبرتَ في معبر الاعتبار، لترى ما آل إليه مآلهم، لرأيت التوى، كيف التوى عليهم، وكف النوى كيف نوى الدنو إليهم، فانظر إلى عواقب الخلاف فإنه شاف كاف‏.‏

الفصل الخامس في قصة ثمود

لما أعرضت ثمود عن كل فعل صالح، بعث إليهم للإصلاح، صالح، فتعنت عليه ناقة أهوائهم بطلب ناقة، فخرجت من صخرة صماء تقبقب ثم فصل عنها فصيلٌ يرغو، فأرتعت حول نهي نهيهم عنها في حمى حماية ‏"‏ولا تمسوها‏"‏ فاحتاجت إلى الماء، وهو قليل عندهم، فقال حاكم الوحي ‏"‏لها شِرْب‏"‏ فكانت يوم وردها، تقضي دين الماء، بماء درها، فاجتمعوا في حلة الحيلة، على شاطئ غدير الغدر، فدار قدار حول عطن ‏"‏فتعاطى‏"‏ فصاب عليهم صيّب صاب صاع صاعقة العذاب الهون، فحين دنا وديدن، دمغهم دمار فدمدم، فأصبحت المنازل، لهول ذلك النازل ‏"‏كأن لم تغن بالأمس‏"‏‏.‏

الفصل السادس في قصة الخليل عليه السلام

كان الكهنة قد حذرت نمرود وجود محارب غالب، ففرق بين الرجال والنساء، فحمل به على رغم أنف اجتهاده، فلما خاض المخاض في خضم أم إبراهيم وجعلت بين خيف الخوف وحيز التحيز تهيم، فوضعته في نهر قد يبس، وسترته بالحلفاء ليلتبس، وكانت تختلف لرضاعه، وقد سبقها رضاع ‏"‏ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل‏"‏ فلما بلغ سبع سنين، رأى قومه في هزل ‏"‏وجدنا آباءنا‏"‏ فجادلهم فجدّلهم فجدلهم وأبرز نور الهدى في حجة ‏"‏ربي الذي يحيي ويميت‏"‏ فقابله نمرود، بسهى السهو في ظلام ‏"‏أنا أحيي‏"‏ فألقاه كاللقا، على عجز العجز، بآفات ‏"‏فأت بها، فبهت‏"‏ ثم دخل دار الفراغ ‏"‏فراغ عليهم‏"‏ فجردوه من بُرد بَرد العدل، إلى حر ‏"‏حرِّقوه‏"‏ فبنوا لسفح دمه بنياناً إلى سفح جبل، فاحتطبوا له على عجل العجل، فوضعوه في كفة المنجنيق، فاعترضه جبريل، في عرض الطريق فناداه وهو يهوي في ذلك الفلا‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ قال‏:‏ أما إليك فلا، فسبق بريد الوحي إلى النار، بلسان التفهيم ‏"‏كوني برداً وسلاماً على إبراهيم‏"‏‏.‏

الفصل السابع في قصة الذبيح عليه السلام

لما ابتلي الخليل بالنمرود فسلم، وبالنار فسلم، امتد ساعد البلاء إلى الولد المساعد، فظهرت عند المشاورة نجابة ‏"‏افعل ما تؤمر‏"‏ وآب يوصي الأب‏:‏ اشدد باطي ليمتنع ظاهري من التزلزل، كما سكن قلبي مسكن السكون، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصبغها عندمي فتحزن لرؤيته أمي، واقرأ السلام عليها مني، فقال‏:‏ نعم العون أنت يا بني ثم أمر السكين على مريئي المرء فما مرت، غير أن حسرات الفراق للعيش أمرت، فطعن بها في الحلق مرات، فنبت، لكن حب حب الرضا في حبة القلب نبت، يا إبراهيم من عادة السكين أن تقطع، ومن عادة الصبي أن يجزع، فلما نسخ الذبيح نسخة الصبر، ومحا سطور الجزع، قلبنا عادة الحديد، فما مر ولا قطع، وليس المراد من الابتلاء أن نعذب، ولكن نبتلي لنهذب‏.‏

أين المعتبرون بقصتهما في غصتهما، لقد حصحص الأجر في حصتهما، لما جعلا الطاعة إلى الرضا سُلّماً، سل ما يؤذي فسلما، وكلما كلما حاجب كلم كل ما به تذبحان، فصد ما به صدما، بينا هما على تل ‏"‏وتلَّه‏"‏ جاء بشير ‏"‏قد صدَّقتَ الرؤيا‏"‏ فارتد أعمى الحزن بصيراً بقميص ‏"‏وفديناه‏"‏‏.‏ ليس العجيب أمر الخليل بذبح ولده، وإنما العجب مباشرة الذبح بيده، ولولا استغراق حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور‏.‏

الفصل الثامن في قصة ذي القرنين

قطع ذي القرنين الأرض وأقطعها فمر سالكاً مسلكاً ما فت سبسبه فتى ‏"‏فأتْبع سبباً‏"‏ فشمر مشمراً ما تلفت، حتى لفت شملة جمع شمله بالشمس في عين حمئه، فلما أفرغ غرب الغرب على غارب الغربة مشى نحو المشارق، ولم يزل يحوز الكنوز، ويجوز إلى قتل من يجوز، إلى أن طلعت طلايعه الطلعة على مطلع الشمس، فأبرز نير عدله المشرق في المَشرِق، ثم رأى باقي عرضه في دمه مقدار مقدرته كالدين، فسلك بين السدين، فلما حشى حشا الجبلين بالزبر، ولج المفسدون قسر قصراهم، على مضض ‏"‏فما استطاعوا‏"‏ عجباً له كم اقتنى من أصقع وأقنف، وكم أسعف بأغشى وأسعف وكم لطى له من لطيم وأخيف، وكم سعى به من أكسع، وقفز به من أقفز، ومشى به في محجة المشرق محجل، وطرق به طريق المغرب مغرب، كم صحبه من سايف ونابل وسالح، كم تبعه من في السلاح كافر، غير شاك في الصلاح ولا كافر، فما درأ عنه الأد المودى له مود، ولا دارى عن داره الدوائر دارع، ولا رد عنه ورد ولا كميت، إذ ورد عليه ما تركه كميّت، ولا فرّ به من منيته سابق، ولا سكيت، فكأنه إذ مات ما تحرك على حارك فرس، ولا شاك شاكلته بشولحة عقب، بل مر كأنه لم يكن، وذل للموت وقبلها لم يهن، فتلمح آخر الدنيا إن كنت تدري، وانظر في أي بحر إلى الهلاك تجري، وأصخ لخطاب الخطوب، وافهم ما يجري، وكن على أهبة فهذي الركاب تسري‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

أو ما رأيت وقائع الـدهـر *** أفلا تسيء الظن بالعمـرِ

بينا الفتى كالطودِ تمنـعـه *** هضباته والعصْب ذي الأثْرِ

يأبى الدنيةَ في عشـيرتـه *** ويجاذبُ الأيدي على الفخرِ

وإذا أشار إلـى قـبـائلـه *** حشدتْ عليه بأوجـهٍ غُـرِّ

زل الزمان بوطء أخمصـه *** ومواطئ الأقدام للعـثْـرِ

نزع الإباءَ وكان شملـتـه *** وأقرَّ إقراراً على صُغـرِ

صدْعُ الردى أعيى تلاحـمـه *** مَن ألحم الصدفين بالقِـطـرِ

جرّ الجياد على الوجى ومضى *** أمماً يدق السهل بـالـوعـرِ

حتى التقى بالشمس مغـمـده *** في قعر منقطعٍ من البحـرِ

ثم انثنت كفُ المـنـون بـه *** كالضغث بين الناب والظُفـرِ

لم تشتجر عنه الـرمـاح ولا *** رد القضاءَ بمالـه الـدثـرِ

جمع الجنود وراءه فكأنـمـا *** لاقته وهو مُضيِّعُ الظـهـرِ

وبنى الحصون ممتعاً فكأنمـا *** أمسى بمـضـيعة ولا يدري

ويرى المعابل للعدى فكأنمـا *** لحمامه كـان الـذي يبـري

أودى وما أودت مـنـاقـبـه *** ومن الرجال مُعمّرُ الـذكـرِ

إن التوقي فضل مـعـجـزة *** فدعِ القضاء يقُـدُّ أو يفـري

تحمي المطاعم للبـقـاء وذي *** الآجال ملؤ فروجها تحـزي

لو كان حُفظ النفس ينفعـهـا *** كان الطبيب أحق بالعـمـرِ

الــداء داء لا دواء لـــه *** سيان ما يوبي ومـا يُمـري

الفصل التاسع في قصة قوم لوط

لما تهاوى قوم لوط في هوة أهوائهم وتنادوا في جهات جهلهم، ‏"‏أخرِجوا آلَ لوط‏"‏ بعثت الأملاك لانتزاع ملاك الحياة من أيديهم، فنزلوا من منزل لوط منزل النزيل، وهم في أفسح بيت نبي من الكرم، غير أن حارس حِذْرِه ينادي ‏"‏وضاق بهم ذرعاً‏"‏ فخاف من قومه أذاهم ‏"‏فإذا هم يهرعون‏"‏ فأخذ يدافع، تارة بمشورة ‏"‏هؤلاء بناتي‏"‏ وتارة بتقاة ‏"‏فاتقوا الله‏"‏ وتارة بسؤال ‏"‏ولا تُخْزون‏"‏ وتارة بتوبيخ ‏"‏أليسَ منكم‏"‏ فلما كلَّ كلُّ سلاحه، وأعيته جهات جهاده، أن برمز ‏"‏لو أن لي بكم قوة‏"‏ فحجبهم جبريل بحجاب ‏"‏فطمسنا‏"‏ وانتاشه من أسر الغنم بلفظ ‏"‏فأسرِ‏"‏ فلما علم أن الملأ ملائكة، تشوق إلى تعجيل التعذيب، فنادت عواطف الحلم ‏"‏أليس الصبح بقريب‏"‏ فسار بأهله على أعجاز نجائب النجاة، إلا عجوز العجز عن عرفان المعجز فإنها لحقت بالعجزة، فلما لاح مصباح الصباح، احتمل جبريل قرى من جنى على قرى جناحه، فلم ينكسر في وقت رفعهم إناء، ولم يرق في صعود صعودهم ماء، فلما سمع أهل السماء نباح كلابهم أسرعت كف القلى بهم في انقلابهم، فتفكروا بالقلب، كيف جوزوا على قلب الحكمة بالقلب، ثم بعث إليهم سحاب فشصا بالشصائص واحزال ثم ال إليهم، فاكفهرت بالغضب أرجاؤه، وأحومت بالسخط أرجاؤه، وابذعرت فعرت بوارقه، وارتتقت في جو الجوى جوبه، واستقلت على قلل قلاقل الردى أردافه، فارتجز بأرجوزة الرجز قبل أن يهمي فهمهم، في دوى بأدواء في دو دورانه فأظلم، وركد كيده فلم تكد قلوعه تقلع حتى قلعهم حينه حين أثجم، فما أرك ولا دث ولا بغض‏.‏ بل قطقط فأفرط، وعم عميمه حين أغمط، فتقاطر على قطرهم من قطرة قطر الحجارة، وبغتهم في غرة غرتهم بالغرور حين شن الغارة، تالله لقد ضكضك العذاب، فضعضعهم فتضعضعوا، وانقض بقضه وقضيضه، فقضقض عظام عظامهم، وقطعها فتقطعوا، وسار بهم على طرفسان عقاب العقاب، إلى عوطب العطب فاهرمعوا، وكانوا في كن صافي الصفاة، فمروا إلى مر الملق فانفرنقعوا، وهمس هميسعهم وهل لمثلهم إلا الوهل والوهى، ولات حين مناص فادرنقعوا، وبرقط المخرنشم بعد أن بهنس، وبلطط فبلطح وحزن المبرنشق بعد أن زهزق، فبلسم وكلح، فأجيل على ذلك الجيل، سجل السجيل، فما برح حتى برح، ودار هاتف العبرة، على دارس دارهم ينادي ‏"‏ولقد تركنا منها آيةً‏"‏‏.‏

فليحذر العازمون على طروق طريقهم من وعيد ‏"‏وما هي مِنَ الظالمين ببعيد‏"‏ قبل غصص الجرض، وألم الحرض، عند حلول المرض، حين يعتقل اللسان، ويتحير الإنسان، وتسيل الأجفان، ويزول العرفان، وتنشر الأكفان، فيا عجباً‏.‏ كيف ألفى لذة العيش الفاني الفان، وقد مر فأمر كل ما كان ‏"‏كلُّ من عليها فان‏"‏‏.‏